الجمعة، 8 أبريل 2016

هل حقا نشأ الإسلام في مكة؟ (1)


الجزء الأول: تاريخ مكة الغامض


أُمّ القرى 

((بَلَغَنِي أَنَّ الْبَيْتَ وُضِعَ لآدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَطُوفُ بِهِ ، وَيَعْبُدُ اللَّهَ عِنْدَهُ ، وَأَنَّ نُوحًا قَدْ حَجَّهُ ، وَجَاءَهُ ، وَعَظَّمَهُ قَبْلَ الْغَرَقِ ، فَلَمَّا أَصَابَ الأَرْضَ الْغَرَقُ حِينَ أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمَ نُوحٍ ، أَصَابَ الْبَيْتَ مَا أَصَابَ الأَرْضَ مِنَ الْغَرَقِ ، فَكَانَتْ رَبْوَةٌ حَمْرَاءُ ، مَعْرُوفَةٌ مَكَانَهُ ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُودًا إِلَى عَادٍ ، فَتَشَاغَلَ بِأَمْرِ قَوْمِهِ ، حَتَّى هَلَكَ وَلَمْ يَحُجَّهُ ، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلامُ إِلَى ثَمُودَ ، فَتَشَاغَلَ حَتَّى هَلَكَ ، وَلَمْ يَحُجَّهُ ، ثُمَّ بَوَّأَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لإِبْرَاهِيمَ ، فَحَجَّهُ ، وَعَلَّمَ مَنَاسِكَهُ ، وَدَعَا إِلَى زِيَارَتِهِ ، ثُمَّ لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ إِلا حَجَّهُ ".)) رواية منسوبة للتابعي عروة ابن الزبير.(1)

((
لمَّا أهبطَ اللهُ آدمَ منَ الجنَّةِ قالَ : إنِّي مُهبطٌ معكَ بَيتًا أو مَنزلًا يُطافُ حَولَه كما يُطافُ حَولَ عَرشي ويصلَّى عندَه كما يصلَّى حَولَ عَرشي ، فلمَّا كانَ زمنُ الطُّوفانِ رُفِعَ ، وكانَ الأنبياءُ يحجُّونَه ولا يعلَمونَ مكانَه ، فبَوَّأه اللهُ لإبراهيمَ فبناهُ مِن خمسةِ أجبُلٍ : حِراءَ وثُبَيرٍ ولُبنانَ وجبلِ الطُّورِ وجبلِ الخَيرِ, فتَمتَّعوا منهُ ما استَطعتُم)) رواية منسوبة لعبد الله بن عمر (2)
((
وُضِعَ الْبَيْت عَلَى أَرْكَان الْمَاء عَلَى أَرْبَعَة أَرْكَان قَبْل أَنْ تُخْلَق الدُّنْيَا بِأَلْفَيْ عَام , ثُمَّ دُحِيَتْ الْأَرْض مِنْ تَحْت الْبَيْت.)) رواية منسوبة لعبد الله ابن عباس. (3)

((
حَجَّ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَلَقِيَتْهُ الْمَلائِكَةُ ، فَقَالُوا : يَا آدَمُ ! بِرَّ حَجَّكَ ، قَدْ حَجَجْنَا قَبْلَكَ بِأَلْفَيْ عَام " .)) رواية منسوبة للنبي محمد. (4)

اليوم ربما أكثر من مليار مسلم حول العالم, يتوجهون بالصلاة جميعا بشكل يومي, نحو ذلك البناء شبه المكعب في مدينة مكة: قبلتهم المقدسة -  تلك المدينة التي تحتوي حرمهم و تمثّل لهم مركز ديانتهم , يسافرون إليها بالملايين كل عام حاجّين و معتمرين إلى "بيت الله", مطيفين حوله مقيمين طقوسهم و شعائرهم المرتبطة بعلامات المكان و ما حوله: الحرم و المقام و الحجر و عرفات و المزدلفة و الصفا و المروة و زمزم.



و يؤمن المسلم تراثيا أن مكة و الحرم هي بقعة الله الأكثر قداسة في أرضه, خلقها قبل سائر البلاد , و أن بها أول بيت عبادة وضع للناس, وضع أساسه آدم بنفسه بمساعدة الملائكة, آخذين حجرها المقدس من الجنة مباشرة,  ثم تلاهم النبي إبراهيم مسافرا إلى الوادي غير ذي الزرع, فأعاد بناء الكعبة هو و ابنه اسماعيل, و طهراها من الأصنام و الأوثان, و أعادا إحياء شعيرة الحج مرة أخرى.



يؤمن المسلم كذلك أن مكة استمرت على أهميتها تلك حتى زمن ما قبل الإسلام, و المسمى بالجاهلية, و أنها كانت في ذلك الوقت مركزا دينيا و تجاريا شهيرا, و أن كعبتها كانت مزارا مقدسا يأتي إليه العرب من جميع أنحاء الجزيرة -  و هو مزار محمي (رغم وجود الأصنام به) بحمى الله نفسه, الذي يحفظه و يدافع عنه ضد كل من تسوِّل له نفسه العدوان عليه.

يؤمن المسلمون أيضا أنه في تلك البيئة الوثنية- ووسط قبيلة قريش صاحبة الجاه و النفوذ - عاش النبي محمد, الذي تلقى آخر رسالات الله إلى البشرية في ذلك الغار, حراء, و تلا ذلك مراحل الدعوة الدينية في السيرة المعروفة, من اضطهاد في مكة, ثم الهجرة إلى يثرب (المدينة المنوّرة), ثم سلسلة الغزوات و السرايا النبوية المنطلقة من هناك, و التي تنتهي بالعودة المنتصرة إلى مكة مرة أخرى, مقترنة بتحطيم الأصنام و إعادة الكعبة لحالتها "الأصلية" التوحيدية- ثم منذ تلك اللحظة المصيرية صارت مكة العاصمة الدينية لجميع المسلمين إلى اليوم.

هذا ما يعتقد به المسلمون, و يتلقونه بالحفظ و الإيمان منذ الطفولة, باعتباره مجموعة من الحقائق الكونية المسلّم بها, و الغير قابلة للجدل أو التشكيك.

 
إلى أي مدى يمكننا الثقة بالمرويات الدينية و إجماع العوام؟
((
تاريخ الكتاب المقدس لم يحدث في المرحلة الزمنية, أو بالشكل, الموصوفين .. بعض أشهر الأحداث المذكورة في الكتاب المقدس لم تحدث على الإطلاق)) – من مقدمة كتاب "التنقيب عن الكتاب المقدس" The Bible unearthed, لعالمي الآثار الإسرائيليين إسرائيل فنكلستاين ونيل سيلبرمان.




المهتم ببحث التاريخ يعرف أن المشهورلا يكون دائما صحيحا, و أن الشائع بين الناس قد لا يكون بالضرورة مستندا إلى أرضية ثابتة كما يُتوقّع, فالتاريخ يقوم على المعلومات الموثقة, لا على المتعارف عليه بين الناس, و على مر الزمن, ما أكثر الأحداث التي لُفقت, و الوقائع التي زُورت, و طالها التحريف و المبالغة و الكذب, سواء عمدا أو خطئا, و كم من معتقد آمن به الملايين طوال قرون, ثم مع الفحص الدقيق تبين زيفه-  و تحديدا مع التاريخ الديني المقدس للشعوب تزيد مساحة الخلط و التهويل و الخرافة, فكم من معلم تم تقديسه ارتباطا بأحداث ووقائع مفترضة, بغير أن يقوم هذا الربط على أساس حقيقي, إلا الإعتماد على أساطير الكهنة و جريا على ثرثرات العوام من المؤمنين الأمّيين.

لو أردنا مثالا على هذا فلا أشهر من موقع الجبل المقدس في سيناء, المسمى بالطور, حيث ارتبط تراثيا و تاريخيا, على مدى قرون, بأنه المكان الذي تكلم فيه الرب ذاته إلى موسى, و منحه فيه الوصايا العشر, كما تذكر التوراة - و على هذا الأساس اهتم المسيحيون الأوائل به, و تم بناء دير سانت كاترين بالقرب منه في القرن الرابع للميلاد,  غير أنه مع قليل من التدقيق نجد أن هذا الربط (بين جبل سيناء التوراتي, و بين هذا الموقع الجغرافي المعيّن) هو ربط حديث زمنيا و غير مبني على أي أسباب أو دلائل يمكن الوثوق بها بالمرة, و لم يبدأ إلا متأخرا نسبيا,في القرون المبكرة للمسيحية, ثم تم ترسيخه مع مرور الزمن, اعتمادا على تراكم الأقاويل المتناقلة شعبيا- لكن بالنسبة للباحث يظل الربط مجرد أمرا تراثيا, لا تاريخيا.

مثال آخر للتزييف التاريخي نجده في أساليب استخدام الدين و التاريخ للترويج لأغراض سياسية, من هذا قصة ذلك الطلسم الخشبي المعروف بإسم " البالاديوم ", المحتوي على صورة منقوشة للإلهة اليونانية القديمة "بالاس", و الذي كان وجوده - كما تحكي الأساطير- بداخل المدن الكبرى كفيل بأن يحميها و يحصنها من كل شر , فكان موضوعا أولا في طروادة العتيقة, و التي لم يتم غزوها إلا بعد سرقة الطلسم السحري منها, ثم مع بزوغ مجد روما لاحقا و انتقال القوة العالمية إليها, تم نسج الأقاصيص التي تعود بروما إلى سلالة طروادية عريقة, و سرت الأقاويل بأن البالاديوم موجود بداخل المدينة العظيمة يحميها و يحرسها, و لاحقا مع قرار قسطنطين نقل مركز حكمه إلى القسطنطينية, في القرن الثالث للميلاد , جرت الشائعات بأن الإمبراطور قام سرا بنقل الطلسم من روما إلى عاصمته الجديدة حيث استقر هناك- هكذا في زمن كانت العظمة فيه تُقاس بمدى العراقة و القدم و العمق الضارب في التاريخ , كانت الحكايات تؤلف و الأساطير تُصاغ بعناية لمنح المجد الماضوي إلى مدن معينة, و نزعها عن أخرى.

هذه مجرد أمثلة بسيطة, فالحقيقة أن معظم التصورات التي سادت طوال قرون بين البشر, عن تاريخ الأديان و الرسالات و سير الأنبياء, قد بدأ التشكيك فيها في عصرنا الحديث, من قبل المؤرخين و الباحثين و علماء الآثار, في معظم الدوائر العلمية المرموقة, في الغرب خاصة.

حتى بعد تنامي أفكار العقلانية و العلمانية و التنوير في أوروبا, و زوال سلطة الكنيسة, ظل المعتقد السائد لفترة (باستثناءات معدودة) أن موسى هو من كتب التوراة, و أن الكتاب المقدس بعهديه هو كتاب موثوق به تماما, من الناحية التاريخية على الأقل, و لم يبدأ التشكيك في مصداقيته تلك الأمور بشكل جدي إلا في النصف الأخير من القرن التاسع عشر, بعد اكتشاف التراث الهائل للحضارات العراقية و المصرية (الأخيرة كنتيجة لفك رموز حجر رشيد أوائل نفس القرن), و بعد بدء عمليات التنقيب الأثري على نطاق شامل في المناطق الشرق أوسطية, و التي يفترض أنه وقعت بها أحداث التوراة, مما مكّن العلماء من إعادة رسم صورة جديدة لتاريخ المنطقة – و النتيجة أنه لأول مرة بدأ وضع الكتاب المقدس, ليس كمرجع حاكم لا يأتيه الباطل, يُقيّم التاريخ في إطاره , و إنما كمنتج ثقافي يحتمل الخطأ و الصواب, يتم تقييمه هو في إطار التاريخ.

و لأن التاريخ بطبعه يناقش أحداثا غيبية وقعت في الماضي, و بالتالي فهي غير مشهودة, فهنا يعمل الباحث بشكل يشبه طريقة عمل شرطة التحري, حين تواجه جريمة من الجرائم وقعت و لم يشهدها أحد, حيث تبدأ بجمع الأدلة المتاحة, كثرت أو قلّت, من بقايا أو بصمات أو آثار دماء مثلا, و قد تستمع إلى شهادات و أقوال كل من له صلة بالواقعة, و من ثم أخيرا تشرع في رسم عدة "سيناريوهات" متصورة لما قد يكون قد حدث بالفعل, و في النهاية يتم قبول أكثر السيناريوهات (أو النظريات) منطقية و تماسكا, باعتباره الأقرب إلى حقيقة ما حدث فعلا على أرض الواقع, مفصولا عن الخرافات الشعبية و البروباجاندا السياسية و الدينية.

هكذا بدأ في الدوائر البحثية الغربية إعادة النظر في كتابة موسى للتوراة, فظهر ما يسمى "النظرية الوثائقية", و التي تنص على أن التوراة كُتبت على فترات زمنية مختلفة, و بواسطة مجموعات متنوعة من الكهنة و الأحبار, و كذلك بدأ التشكيك في مصداقية الأحداث الموصوفة في ثناياها, كدخول بني إسرائيل إلى مصر, و استعبادهم فيها, و خروجهم منها بقيادة موسى, ثم غزوهم لفلسطين بقيادة يوشع, فظهر الرأي بأنها في مجملها أحداث وهمية, صيغت في فترات متأخرة, لخدمة أهداف سياسية محلية معيّنة, و امتد الشك ليطال وجود الأنبياء الأوائل (و المسمون الآباء أو البطاركة) كإبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و يوسف و الأسباط, بل وضع احتمال أنها مجرد شخصيات خرافية أسطورية شعبية , مثلها مثل الآلهة القديمة زيوس أو هرقل أو حورس أو كريشنا..إلخ, و لم يختلف الحال مع مملكة داود و سليمان التوراتية, و التي لم يجد الباحثون أي دليل تاريخي أو أثري يذكر يدل على وجودها خارج التوراة, فتم اعتبارها مجرد أسطورة يهودية شعبية أخرى.

و لم يكن حظ المسيحية آفضل بكثير, فظهرت رؤى بحثية متنوعة, تتراوح ما بين التشكيك بوجود يسوع بالمطلق و اعتباره شخصية أسطورية أخرى, و ما بين الإعتراف بوجود فعلي واقعي لداعية يهودي عاش في ذلك الزمن بالفعل, مع التحفظ على كل ما ورد بشأنه في الأناجيل, و التي – مثلها مثل التوراة- لم تعد تعتبر مراجع تاريخية يمكن الوثوق بها.

و تنوعت نظريات بحث الأديان تاريخيا بين ما يمكن تسميته اتجاه "تقليلي" minimalism , و الذي يميل إلى رفض التسليم بالمرويات الدينية و عدم قبول سوى الحقائق الصلبة, التي يوجد اتفاق عليها أو تدل عليها الآثار, و ما بين اتجاه "تكثيري" maximalism , و الذي لا يجد مانعا في تصديق ما جاءت به المصادر الدينية و التراثية, حتى و إن لم يكن هناك أدلة صارمة تدعمه - و شهدت العقود الأخيرة من القرن العشرين طفرات آثارية و بحثية جديدة تبشر بإمكانية الجمع بين تلك الرؤى المختلفة, في أُطُر أكثر تماسكا, تمنحنا فرصة أفضل لفهم ما حصل على الأرض, و كيف وصلت إلينا الأديان بالفعل.

الخلاصة أن شيوع المعتقد بين عدد كبير من الناس, و لفترات طويلة من الزمن, لا يجعله حقيقيا, و أن مناهج البحثية الحديثة قد نجحت في قلب الكثير مما كان سائدا و متعارف عليه بين الناس لقرون طويلة, رأسا على عقب.

ماذا عن الإسلام؟
((
في هذا السياق النقدي الاستشراقي الذي ابتدأ بشكل منهجي منذ حوالي منتصف القرن التاسع عشر، تعرضت نصوص السيرة ومعها الأحاديث المنسوبة للنبي محمد ونصوص التاريخ المبكر للإسلام وخصوصاً في القرن الأول للهجرة، ومعهم الآليات الإسلامية المرافقة مثل سلاسل السند وما يسمى بعلم الجرح والتعديل، إلى نقد منهجي منظم بحيث تكشّف معها، من وجهة النظر الاستشراقية على الأقل، بأننا لا نعرف على الحقيقة عن النبي محمد إلا شذرات بسيطة جداً عنه بحيث لا يمكننا معها تكوين أي تصور واقعي عن حياته ولا عن أحداثها ولا عن تفاصيل دعوته، دع عنك إمكانية تكوين سيرة كاملة له كالتي نقرأها اليوم في مراجع إسلامية متعددة. فكما هو الحال تماماً مع النبي موسى والمسيح عيسى، من وجهة النظر هذه، فإن التاريخ الذي ترويه التوراة (أسفار موسى الخمسة) والأناجيل سواء منها الأربعة المعترف بها من الكنيسة أو غير المعترف بها، هذه جميعها لا تروي "تاريخ" حدث بالفعل ولكنها بالمقابل تروي "لا شيء آخر سوى إلباس أفكار دينية لبوس التاريخ، يتم تشكيلها بواسطة قوة الأساطير الإبداعية وبشكل غير واعي، ثم يتم تجسيدها من خلال شخصية تاريخية", كما يقول أحد المستشرقين ودارسي التراث التوحيدي ديفيد شتراوس)) – من مقال "في إشكالات السيرة النبوية", لحسن محسن رمضان.

((
و بالنسبة لقلب الجزيرة العربية فإن الأدلة الأثرية و التاريخية عن الفترة الجاهلية تكاد تكون معدومة. و هنالك بعض النقوش و الآثار القليلة التي اكتشفت في مناطق متفرقة من أطراف الجزيرة العربية و بالدرجة الأولى في اليمن و حضرموت و كذلك في حفريات نمارة. كما توجد إشارات عابرة إلى عرب الأطراف الشمالية و بادية الشام في النقوش الأشورية و البابلية و الفارسية. و كذلك إشارات أخرى يغلب عليها الطابع الأسطوري و اللاتاريخي في التوراة. ثم هناك بعض الفقرات المتفرقة في الكلاسيكيات اليونانية في التاريخ و الجغرافيا لأخيلوس و هيرودوتس و بطليموس.. كما تعاني الفترة الإنتقالية من الجاهلية و صدر الإسلام من افتقار مماثل في المصادر و الأدلة التاريخية و الأثرية))

((
و الواقع أنه لا يوجد أي دليل تاريخي أو أثري ملموس على وجود الإسلام قبل فترة عبد الملك بن مروان. فأقدم المساجد و النقوش و الآثار النقدية و الإشارات المتفرقة في أوراق البردي تعود إلى تلك الفترة. و حتى القرآن لا يشذ عن هذه القاعدة. و أول دليل ثابت على وجوده يعود إلى الربع الأخير من القرن الهجري الأول- أواخر القرن الميلادي السابع)) -  من مقدمة كتاب "مقدمة في التاريخ الآخر", سليمان بشير.
من المؤكد أن البحث في تاريخية الإسلام لم يقطع أشواطا طويلة, يمكن مقارنتها بما تم في تاريخ اليهودية و المسيحية , فمع وجود جهود جيدة قديمة و حديثة - من مستشرقين و عرب – بدأت بالتساؤل مثلا عن مدى مصداقية الأحاديث النبوية الواردة عن محمد, و امتدت في قليل من الأحيان لتشمل التشكيك في تاريخ "الجاهلية" و أدبها, على نحو ما رأينا مثلا في أفكار المستشرق الإنجليزي مرجليوث و الأديب المصري طه حسين, إلا أنه , و حتى اليوم, يظل المعتقد السائد بين المتخصصين (كما بين غيرهم) هو التسليم ضمنا بصحة مجمل ما وصلنا في كتب السيرة, سواء عن زمن ما قبل الإسلام, أو عن سيرة محمد و دعوته ذاتها.

بمعنى آخر, فإن دراسة الإسلام تمر اليوم بما مرت به دراسة التاريخ اليهومسيحي منذ عقود, و لم تطلها المراجعة "الثورية" بشكل كافي حتى الآن- و لا نرى استثناءات لهذا سوى محاولات معدودة ,لكنها متصاعدة و متنامية, لبعض الباحثين, الذين صاروا يشككون في الثوابت المعروفة للقصة الرسمية التي وصلتنا عن نشأة هذا الدين, و يهدفون لإعادة رسم صورة مختلفة جديدة للأحداث.

و لكن لو اتفقنا أن التشكيك و الرفض ليس هدفا بحد ذاته طبعا - فهل هناك إذن أسباب تدعونا للريبة في الرواية التقليدية الإسلامية؟

حسن, بعيدا عن الغياب شبه التام لأية آثار "جاهلية" تدعم ادعاءات الرواة و كتاب السير العباسيين بشأن تلك الحقبة (كمثال, فلم يتم العثور أبدا على قصاصة واحدة من الشعر الجاهلي المزعوم!), و بعيدا كذلك عن الضعف الواضح لمصادر السيرة من الناحية التاريخية  (إذ هي تمثل أقاويل ظلت تتناقل شفهيا لأكثر من قرن من موت محمد عام 632م, مما يفتح الباب لكل تشويه و تحريف و زيادة و نقصان و نسيان مرتبط بالروايات الشفهية, ثم تولى ابن إسحاق (المتوفي عام 768م) جمعها , تحت سلطة الخليفة العباسي, و في إطار ظرف معقد و متصارع دينيا و سياسيا , في كتاب مليء بالأساطير و الخرافات و الأخطاء التاريخية, لم تصلنا منه إلا نسخة منقحة على يد آخر هو ابن هشام, الذي يفصله قرنين كاملين عن زمن محمد, بينما لم يصلنا أي مخطوطة كاملة مما كتبه ابن إسحاقمع ملاحظة أن المصادر الأخرى للسيرة هي كتب متأخرة: المغازي للواقدي (توفي عام 822م), و كتاب طبقات إبن سعد (ت 845م), و تاريخ الطبري (ت 922م) و مجموعة كتب الصحاح – التي كتبت لسبب ما في جيل واحد- في القرن التاسع, للبخاري (توفى 870م) ومسلم (ت875م) وإبن داوود (ت888م) والترمذي (ت892م) والنسائي (ت915م) وإبن ماجه (ت886م), و الغريب هنا أن الكتابات الأحدث تتضاعف فيها الروايات كمّا و كيفا عن الأقدم  (كلما تأخر المصدر زمنا, كلما ازدادت التفاصيل التي يحكيها, و هو أمر آخر يثير الشكوك), أما أكثر المصادر قدما و مصداقية تاريخية, القرآن, فهو شحيح جدا في التفاصيل يكاد يخلو مما يمكن الإعتماد عليه تاريخيا),  نقول بعيدا عن هذا و ذاك, فالجواب بنعم : هناك أسباب تدعو للريبة في القصة السائدة- و هي أسباب لها جوانب متنوعة و عديدة, و لا تختلف كثيرا عن الأسباب التي دعت الباحثين للشك في رواية الكتاب المقدس للتاريخ.

من الجوانب المريبة (على سبيل المثال لا الحصر) ما هو متعلق بالآثار أيضا : فنجد الندرة المدهشة لأي أثر يدل بوضوح على وجود القرآن. أو وجود دين يسمى الإسلام, على مدى النصف الأول من حكم الأمويين على الأقل:  فأقدم آيات قرآنية على الإطلاق نجدها في نقوش قبة الصخرة, التي بناها الخليفة عبد الملك ابن مروان في القدس عام 691, و أقدم أجزاء من مصحف نجدها في مخطوطات صنعاء, و التي يُقدّر بأنها تعود إلى زمن الوليد ابن عبد الملك, كذلك أقدم نقوش أو عملات تحمل أي اعتراف بنبوة محمد أو شهادة التوحيد, فهي تعود أيضا إلى زمن صراع عبد الملك مع الزبير (حوالي عام 685) , أما المنقوشات و العملات قبل ذلك الزمن (أي في العهد المفترض للخلفاء الراشدين و معاوية), فهي لا تحوي سوى صورا و علامات يهودية و مسيحية - دون أي شيء يدل على أن أصحابها كانوا مسلمين!,  فجأة في عهد عبد الملك اختفت الصور و الرموز اليهومسيحية من العملات و ظهر مكانها – لأول مرة – شهادة التوحيد المألوفة.

أما المصادر غير العربية المعاصرة و القريبة من زمن محمد (سواء سريانية أو أرمينية أو قبطية أو نسطورية أو يهودية) كتعاليم يعقوب, و الحواليات المارونية و غيرها , و رغم إبهامها و انحيازها المتوقع, فهي لا تذكر في مجملها أكثر من "ظهور نبي بين السراسنة (العرب)", و تتحدث عن بضعة معارك و غزوات أمر بها أو قادها بنفسه-  فيما عدا ذلك فالقليل الذي تذكره يعطينا صورة مغايرة كثيرا للصورة المعروفة, إذ لا نجد أي شيء يشير إلى ديانة العرب الفاتحين, كما لا نجد ذكرا لكلمات "الإسلام" أو "المسلمين" أو "القرآن", و إنما ما نجده هو تسمية للقوم بالـ "مهاغرايا" (و التي قد تفسر بأبناء هاجر, و هم العرب, أو ربما "المهاجرين"), و نجد حديثا عن وجود تحالف ما بين هؤلاء السراسنة و بين اليهود, تحت شعار المطالبة باستعادة الأرض الإبراهيمية المقدسة في فلسطين, و لاحقا نجد أشياءا لا تقل غرابة, مثل إشارة إلى معاوية باعتباره أميرا مسيحيا حكم الشام!, هذا إلى جانب اختلافات أخرى عديدة لا مجال للخوض فيها هنا.

و من الجوانب المريبة أيضا ما هو متعلق بشخص نبي الإسلام نفسه, مثل إظهاره في السيرة كشخص مليء بالمتناقضات, فهو تارى داعية مسالم حسن الخلق, يصبر على الإضطهاد من "الكفار" طوال ثلاثة عشر سنة كاملة, ثم هو يتحول فجأة إلى زعيم قبلي براجماتي دموي مزواج, و هو تارة ذكي متزن, و تارة يبدو حاد الطبع أقرب إلى الجنون, بحيث  يبدو الأمر أحيانا و كأننا نتحدث عن شخصين مختلفين, أو حتى عدة شخصيات.

كذلك أحداث سيرته ذاتها لا تقل غموضا, فهي تارة تبدو شديدة الصدق الواقعية, و تارة تبدو كملحمة انتصار خارقة تحتوي كل العناصر اللامعقولة و المتكررة التي نجدها في ملاحم الأبطال الأسطوريين أو نصف الأسطوريين :  (النداء إلى المغامرة – التردد في الإستجابة -  التدخل السماوي - المعاناة – الهجرة – المعارك و المواجهات - الإنتصار – العودة إلى نقطة البداية) (5), هذا مع ملاحظة التشابهات الملفتة جدا بين سيرة محمد و سيرة العديد من الشخصيات الدينية الأقدم, مثل النبي الفارسي "ماني" , و موسى, و حتى هرقل البيزنطي, و غيرهم (مع عدم إغفال ربط هذا مع تشابه ديانة الإسلام نفسها مع ديانات المانوية و اليهودية و السامرية و الصابئة), و هناك أيضا التشابه مع سير إسلامية لاحقة كسيرة محمد ابن علي ابن أبي طالب, و الملقب بـ"محمد ابن الحنفية" (و لو تذكرنا أن السيرتين كتبتا متأخرتين فمن الصعب تصور أيهما أخذ عن الآخر).

بعض الجوانب المريبة متعلق بالقرآن نفسه, مثل مسألة تشابه بعض أبيات الشعر المنسوب للجاهلية مع آيات قرآنية, و خاصة الشعر المنسوب للأحناف حيث يصل الأمر أحيانا إلى التطابق في الكلمات و في الأفكار (كقول امرؤ القيس " دنت الساعة وانشق القمر" و تشابهها مع قول القرآن " اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ", و كقول أمية ابن أبي الصلت " إله العالمين وكلِّ أرض, ورب الراسيات من الجبال, بناها وابتنى سبعا شداداً , بلا عَمدٍ يرين ولا حبال", و تشابهها مع قول القرآن "وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ", "وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا", " خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ", و غيرها كثير - و يصعب تصور أيهما سبق الآخر زمنيا في الحقيقة),  و أيضا مثل مسألة وجود كلمات دخيلة كثيرة في ثنايا المصحف, منها ما ينتمي إلى لهجات عربية غير قرشية, و منها ما ينتمي إلى لغات أجنبية كلغة الفرس و الروم و النبط و الحبشة و البربر و السريانية و العبرية و القبطية, (على سبيل المثال لا الحصر, فكلمات مثل "رحمن" و "نبي" و "مدينة" و "ذكر" "سبح" و "فرقان" و "قسط" و "جزية" و "أباريق" و "طور" و "سريا" و "طاغوت" و "ماعون" و "منافق" و "سورة" و "كتاب" و "مثاني" و "مصحف" و غيرها كثيرا, هي كلمات يمكن إرجاعها إلى أصل أرامي\سرياني, و بعضها مستخدم في العبرية و الفارسية و الرومية و الحبشية- بل حتى كلمة "قرآن" ذاتها هي مشتقة من كلمة "قِريانا qeryana" السريانية التي كان يستخدمها المسيحيون و اليهود قبل الإسلام , للإشارة إلى "الكتاب المقدس المقروء") حتى ذكر البعض أن القرآن أخذ عن خمسين لهجة و لغة! (6) بل و نجد روايات عديدة تقول بأن الصحابة أنفسهم- كأبي بكر و عمر ابن الخطاب و عبد الله ابن عباس- استعصى عليهم فهم الكثير من كلمات القرآن!, و أيضا مما يريب هو طريقة جمع المصحف ذاته, و تضارب الروايات التي تتعلق بجمعه, مع الحديث عن آيات و سور ضائعة, و وجود عدة مصاحف متنافسة, في زمن الصحابة.

أيضا هناك جوانب تثير الريبة تتعلق بمدينة مكة ذاتها, مثل ماضيها الغامض, و عدم وجود أي ذكر تاريخي قديم لها, مما يناقض تماما ما ذكر في أقوال الإخباريين و رواة التراث عن أهميتها المزعومة قبل الإسلام وصولا إلى زمن آدم و نوح و إبراهيم , بل و مثل أن قبلات المساجد الأولى في زمن الإسلام لم تكن مُوجهة لها, بل تم تحويلها لاحقا, و مثل شواهد عديدة و متنوعة توحي بنقل مسرح نشأة الإسلام بالكامل إلى مكان آخر.

هذه الجوانب التي أوردناها هي مجرد أمثلة و إشارات مختصرة, فالمريب و المتناقض في المصادر و النصوص الإسلامية كثير, و لعل معظمه لايزال بحاجة إلى المزيد من الدراسة من المتخصصين - أما ما سنتناوله هنا فهو الجانب الوارد في الفقرة الأخيرة, و المتعلق بمكة.

 
المدينة الشبح

((
من الممكن القول أننا لا نعرف عن تاريخ مكة في فترة ما قبل الإسلام إلا من خلال ما ربطته الرواية بها من العقيدة الإسلامية)) -  من كتاب "مقدمة في التاريخ الآخر", سليمان بشير

 (("
مع معرفتنا بأن مدوني أقدم سيرة النبي كانوا يكتبون بعد نحو قرنين من زمن وفاته, ترى إلى أي مدى يمكننا قبول فرضيتهم القائلة بأن مكة القرن السابع كانت بالأساس مكانا على قدر كبير من الأهمية و الثراء : "أم القرى"؟

من المقبول عقلا القول بأنها كانت مركزا للحج,  للوثنيين المحليين- و لكن القول بأنها كانت دبي زمانها, مركزا تجاريا عالميا مزدهرا في قلب الصحراء, هو حتما ليس كذلك.

أي حافز قد يدفع باحثا عن الأرباح كي يضع نفسه في قرية قاحلة على بعد مئات الأميال من أقرب بوتقة استهلاكية؟ حتى قوافل الجمال القليلة التي استمرت آنذاك في التنقل شمالا منطلقة من حِمْيَر, متجهة نحو سوق روماني كان قد فقد شهيته نحو البخور منذ زمن طويل, كانت تذهب في طريق لا يمر بمكة بحال."

"
و في كتابات المدونين المعاصرين لمحمد- سواء سياسيين أو جغرافيين أو مؤرخين- يواجهنا ذكر مكة بالصمت الصادم.  حتى في القرآن نجد ذكرها مرة واحدة (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة) و هي إشارة قد تكون لقرية كما قد تكون لمدينة - باستثناء ذلك, ففي الكم الهائل من الأدب القديم, لا يوجد ذكر واحد لمكة.

فقط في عام 741, بعد أكثر من مائة سنة من موت النبي, يظهراسم مكة أخيرا على صفحات نص أجنبي, و نجد أن المؤلف يضع موقعها في العراق (بين مدينتي أور و حران).

من الواضح إذن, أنه مهما كانت مكة في بدايات القرن السابع, فإنها لم تكن مدينة تجارية مزدهرة بحال")) - من كتاب "تحت ظل السيف", للمؤرخ توم هولاند, ص 303

(("
من الواضح أنه لو كان المكيين وسطاء في تجارة طويلة المسافة, من النوع الذي وصف في الأدب الإسلامي, لكان هناك ذكر لذلك في كتابات زبائنهم, الذين كتبوا باستفاضة عن العرب الجنوبيين, الذين كانوا يمدونهم بالعطريات.  بالرغم من الإهتمام الكبير الذي أولي إلى العرب, فإنه ليس هناك أي ذكر على الإطلاق لقريش (قبيلة محمد نبي الإسلام) ومركزهم التجاري مكة, سواء في الكتابات اليونانية أو اللاتينية أو السريانية أو الأرامية أو القبطية, أو أية لغات أخرى كانت تستخدم خارج شبه الجزيرة العربية))  – من كتاب "التجارة المكية و صعود الإسلام"  Meccan Trade and the Rise of Islam , لباحثة التاريخ الإسلامي باتريشيا كرون.


تاريخيا, فالقرآن لا يخبرنا الكثير: لا نجد فيه ذكرا واضحا لمكان ولادة محمد, أو حياته, أو هجرته, أو نسبه - هناك ذكر واحد غير واضح لكلمة مكة, و ذكر آخر لبكة, مقرونة بـ"أول بيت وضع للناس" (و التراث يقرن بين مكة و بكة, فيقول أن هذه هي تلك, بتنويعات مختلفة), و هناك كذلك إشارة واحدة مبهمة لقريش و علاقتها ببيت مقدس ما , و في مواضع أخرى يتحدث عن الحرم و طقوس الحج. (لاحقا سنتطرق أكثر إلى بكة و إلى المزيد من الإشارات القرآنية)

ماذا عن نصوص التاريخ؟

مع تفحص المدونات القديمة غير الإسلامية, نفاجأ بأن مكة ليس لها أي ذكر واضح أيضا في التاريخ , سواء في الزمن القديم المقارب لإبراهيم و الأنبياء , أو في الزمن السابق على الإسلام مباشرة.

في كتاب للباحث د. رأفت عماري بعنوان "الإسلام: في ضوء التاريخ" Islam: In Light of History , يرصد في بعض فصوله الحضارات المختلفة في المنطقة منذ القدم , و يتتبع التراث الأشوري, و البابلي, و الفارسي, و اليوناني, و العربي, محاولا البحث عن أي ذكر لمكة في نصوص تلك الحضارات , دون أن يجد لها أثرا بالمرة.

يلاحظ الكاتب مبدئيا الغنى الكبير للآثار و الموجودات المتبقية في الجزيرة العربية, منقوشات و منازل و معابد و نصب و سجلات تجارية و ألواح و أطلال مدن و أواني فخارية و خزفية, مما يعود الفضل فيه إلى المناخ الجاف و الصحراوي الذي يساهم في الحفاظ على الآثار و يمنعها من الإنهيار و التحلل , بحيث أن علماء الآثار اليوم نجحوا في رسم صورة شبه كاملة لتاريخ تلك المنطقة, أحداثها و ملوكها و حروبها و أنماط حياتها و أسماء آلهتها- هذا يرد على كل من يحاول تبرير غياب مدينة بالحجم و الثقل المفترضين لمكة, بالقول أن "غياب الدليل لا يعني دليل الغياب", بل لو كانت مكة موجودة لتوقعنا حتما أن يكون لها أي أثر أو ذكر ما.

يبدأ الكاتب بسرد المدونات التاريخية لمنطقة شمال غرب الجزيرة العربية, منذ القرن التاسع قبل الميلاد, منها مدن كقيدار و ديدان و تيماء, و قبائل و حضارات كثمود و لحيان و الأنباط, و الموثقة جيدا, سواء من خلال ما وُجد في تلك المناطق ذاتها من آثار , أو من خلال حديث الحضارات المجاورة- كالأشورية و البابلية- عنها,  مع التأكيد على الغياب الكامل لأي ذكر لمكة.

بعدها ينتقل إلى الحضارات الواقعة جنوب الجزيرة العربية, و التي تملك تراثا آثاريا أغنى حتى من سابقتها, يعود إلى القرن 14 قبل الميلاد, و يتحدث عن مملكة هَرَم اليمنية, و عن ملوك مَعِن, و مملكة قَطبان, و حضارتي سَبَأ و حَمْيَر, و كلها لديها سجل مزدحم بالآثار - و لكن أيضا لا أثر لحديث عن مدينة تسمى مكة.

ثم يأتي دور شرق شبه الجزيرة, حيث نجد مملكة كِنْدَة, و التي لها, مثل سابقاتها, تاريخ معروف, كما يرد الحديث عنها في السجلات السبأية, و في أقصى شرق الجزيرة نجد تاريخا معروفا لحضارات عريقة, مثل دلمون (تقع في دولة البحرين الحالية), و التي نعلم عنها الكثير , و تذكرها المدونات السومرية و الأكادية منذ الألفية الرابعة قبل الميلاد, و مَجَان (عُمان الحالية) و التي أيضا تملك تاريخا موثقا, يمتد حتى الألفية الثالثة قبل الميلاد.

بعدها ينتقل إلى غياب ذكر مكة من سجلات الحضارات العربية التي استعمرت المنطقة, فيبدأ من توسع حضارة المعنيين شمالا, و احتلال اللحيانيين للمنطقة, و عدم ذكرهم لمكة, ثم يتحدث عن سيطرة الأنباط (قرونا قبل و بعد الميلاد) على طريق التجارة  من شمال الجزيرة إلى جنوبها, متضمنة صحراء غرب وسط الجزيرة العربية, و التي تحتوي مكة, و عدم ذكرهم لها أيضا, رغم تسجيلهم لمدن و قرى صغيرة لا أهمية لها.

كذلك أهل كِنْدَة سيطروا على غرب الجزيرة العربية, و دراسة منقوشاتهم لا ترينا أي وجود لمكة في القرن الثاني و الثالث بعد الميلاد.

نفس الشيء عن الحِمْيَريين, الذين استعمروا المنطقة التي توجد بها مكة اليوم, و رغم كثرة منقوشاتهم فلا يوجد للمدينة ثمّة ذكر.

و لا يختلف الأمر فيما يخص الحضارات الكبرى- غير العربية- التي قامت بغزو المنطقة , كالأشوريين و البابليين و الفرس و الرومان, و هي كلها حضارات قامت باحتلال شمال و غرب وسط الجزيرة العربية, فيتناولها الكاتب ببعض التفصيل, ليخلص إلى أنه لم تقم إحداها- في جميع السجلات و المنقوشات و المخطوطات التي تركتها- بالحديث عن أي وجود لمكة.

و في فصل آخر من الكتاب, يتناول المؤلف بالتفصيل الكتابات القديمة للمؤرخين و الجفرافيين الكلاسيكيين , و على الأخص اليونانيين و الرومان, منذ القرن الخامس قبل الميلاد, وصولا إلى الثالث بعد الميلاد, حيث جمعوا معلومات مُكثّفة و مُوثّقة عن شبه الجزيرة العربية, و منهم من زارها, بل و رسم لها الخرائط, ذاكرا مدنها و قراها و معابدها و جبالها, بكل اهتمام و دقة , و مع ذلك فتلك الكتابات- مرة أخرى- تخلو من أي ذكر لمكة.

يبدأ من هيرودوت, الذي تجول في كثير من أنحاء العالم القديم, و زار الجزيرة العربية في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد, و كتب عن جغرافيتها و مدنها, لكنه لم يذكر مكة, ثم ينتقل إلى القرن الرابع قبل الميلاد, حيث أرسل الأسكندر الكبير جغرافيين إلى الجزيرة العربية, ليجمعوا له معلومات عنها, تمهيدا لغزوها, و مع ذكر هؤلاء لتفاصيل مهمة بشأن ساحل البحر الأحمر و المناطق المحيطة به, إلا أنهم أيضا لم يذكروا شيئا عن مكة.

بعدها يسير المؤلف مع كُتّاب آخرين, جغرافيين و مؤرخين, يونانيين و رومان, كثيوفراستوس, الذي كتب في القرن الرابع ق.م عن تجارة السبأيين البرية و البحرية, و إراتوسثينيس, الذي قاس طول ساحل البحر الأحمر, و أجرى مسحا شاملا عن الطرق البحرية و البرية التي تربط جنوب الجزيرة بخليج العقبة شمالا, و وصف كل الشعوب و المراكز في المنطقة, في أواخر القرن الثالث ق.م, و أغاثاركايدس السكندري, أهم مؤرخ و جغرافي في زمانه, و الذي كان قريبا من القصر البطلمي الحاكم, مما مكنه من وضع يديه على أرشيف كامل من البعثات الإستكشافية في القرن الثالث و الثاني ق.م, بالإضافة إلى التعامل شخصيا مع "شهود عيان", من سفراء و تجار و مكتشفين, زاروا بأنفسهم المنطقة المحيطة بالبحر الأحمر, و قام بوصف تفصيلي و دقيق للقبائل و المعابد و طرق التجارة و الظواهر الطبيعية في تلك المنطقة, و أرتيميدوروس, المؤرخ و الجغرافي اليوناني, الذي كتب أحد عشر مجلدا في الجغرافيا في القرن الثاني ق.م , جامعا معلومات سابقيه و مضيفا عليها, و واصفا أيضا ساحل البحر الأحمر و ما حوله, ثم هناك المؤرخ و الجغرافي الروماني سترابو, و الذي رافق الحملة العسكرية الرومانية على جزيرة العرب, بالتعاون مع الأنباط, في القرن الأول قبل الميلاد, و قام بتسجيل- كشاهد عيان- كل قرية و مدينة في المنطقة التي تحركت فيها الحملة, على ساحل البحر الأحمر, من شماله حتى جنوبه, بعدها يأتي مسح بليني, الفيلسوف و العسكري و المؤرخ الروماني, و الذي كتب موسوعته الضخمة "التاريخ الطبيعي" في القرن الأول بعد الميلاد, متحدثا في بعض أجزائها عن جزيرة العرب, من شمالها إلى شرقها إلى جنوبها إلى غربها , ذاكرا أكثر من تسعين اسم لشعب و قبيلة عربية - و في جميع تلك الكتابات لا ذكر لمكة, و لا جرهم, و لا قريش.

و تستمر الظاهرة في المصادر القديمة الأثيوبية, و السريانية, و الأرامية, و القبطية: لا حرف عن مكة.

و حين نقارن هذا الحال بأي مدينة أخرى, مثل القدس , و المذكورة بوفرة في المصادر التاريخية القديمة, كرسائل تل العمارنة المصرية و غيرها, أو حتى كمدينة يثرب, التي نجد اسمها عدة مرات في المدونات الرافدية و اليونانية و اليمنية , منذ القرن السادس قبل الميلاد , هنا تتضح لنا حجم المعضلة, بل اللغز.

أخيرا نشير إلى ما قد يُرى كذكر- استثنائي- لمكة, في كتابات كلاسيكية , و هو حديث الجغرافي بطليموس السكندري في كتاباته, في القرن الثاني بعد الميلاد, عن مدينة تسمى "موكا", و أخرى تسمى "ماكورابا", حيث يرى البعض أن هذه , أو ربما تلك, قد تكون هي  مكة التي نعرفها, غير أن تتبع إحداثيات المكانين, من كتابات بطليموس, يرينا أن موكا تقع في شمال الجزيرة العربية قرب البتراء في الأردن, بينما ماكورابا تقع في شرق جنوب الجزيرة العربية (ناحية عُمان, و يحتمل أن نقرنها بميناء "موكوربا" الذي ذكره بليني أيضا).

النتيجة إذن أنه ليس هناك ما يثبت وجود مكة قديما, فضلا عما يُثبت أهميتها التجارية أو الدينية أو السياسية, و نفس الشيء ينطبق على ما قبل الإسلام مباشرة, حيث يستبعد الكثيرون وجود ذلك النشاط التجاري البري, بين الشمال و الجنوب العربي, في ذلك الوقت, كما رأينا في إشارات باتريشيا كرون و توم هولاند و غيرهما.

ختاما, لو ألقينا نظرة على صفحة ويكيبيديا على الإنترنت, تحت عنوان "المدن الأثرية في السعودية", Ancient towns in Saudi Arabia , فسنجد الحدث عن المناطق ذات السجل الأثري المعتبر: قرية الفاو, وادي الأخدود, مدائن صالح, دومة الجندل, و غيرها, بينما لا نجد اسم مكة- ذلك لأنها لا تملك سجلا أثريا يُذكر.

هذا عن المدينة, فماذا عن كعبتها المقدسة؟

هوامش و مراجع
(1) -  أخبار مكة للأزرقي .. باب ذِكْرُ حَجِّ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وأذانه بالحج .. حديث رقم 89
(2) - 
الهيتمي المكي - المصدر: الزواجر - الصفحة أو الرقم  1/20 .. رواه الطبري في تفسيره للآية 127 من سورة البقرة بسنده.

(3) -
أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة..و رواه الطبري في تفسيره بسنده (3/61)

(4) -
أخبار مكة للأزرقي..  باب مَا جَاءَ فِي حَجِّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ودعائه.. حديث رقم 28

(5)
هنا يمكن مراجعة نموذج الخطوات النمطية للبطولة, الذي وضعه باحث الميثولوجيا الأمريكي جوزيف كامبيل, و المعروف بإسم Monomyth "الأسطورة الأحادية" , أو hero's journey  "رحلة البطل" - و هي خطوات تقليدية تتكرر في كل الملاحم الأسطورية تقريبا, بتنويعات متباينة..

(6)
كتاب "الإرشاد في القراءات العشرة", لأبي بكر الواسطي..

الجزء الثاني
االجزء الثالث
الجزء الرابع

هناك تعليقان (2):

  1. نشأة الإسلام لغز محير ....

    ردحذف
  2. الجغرافي بطليموس السكندري في كتاباته, في القرن الثاني بعد الميلاد, عن مدينة تسمى "موكا", و أخرى تسمى "ماكورابا", حيث يرى البعض أن هذه , أو ربما تلك, قد تكون هي مكة التي نعرفها, غير أن تتبع إحداثيات المكانين, من كتابات بطليموس, يرينا أن موكا تقع في شمال الجزيرة العربية قرب البتراء في الأردن, بينما ماكورابا تقع في شرق جنوب الجزيرة العربية (ناحية عُمان, و يحتمل أن نقرنها بميناء "موكوربا" الذي ذكره بليني أيضا)... هذا اقتباس من المقال اعلاه

    .. بطليموس حدد المناطق التي على ساحل البحر في خريطته ذكر مكة في موقعها الحالي والاحداثيات تضعها في موقعها المعروف اليوم في تهامة مع العلم انكم تجاهلتم أن تشيروا إلى هذه الحقيقة أن مكة تهامية والنبي تهامي ولا أظن عربي أو اجنبي يقول ان البتراء من ارض تهامة .. نعود لبيليني وسترابون وتيودور الصقلي وهيدروت وغيرهم فجميعهم ذكروا مكة وكعبتها منهم من سماها مكت أو مكا Makka 0 أو مقان ومجان (النون للتعريف) ومنهم من أشار لمكانة مكة وبينها المقدس عند العرب باسم مكروبا أو موكا، ...والخلط لديكم في اقحامكم الخليج العربي المعروف اليوم في هذه الأسفار التي تركها لها المؤرخين الكلاسيكيين الإغريق واليونان والرومان فإن احد منهم لم تطى أقدامه عمان أو الكويت او البحرين وإنما اقتصرت كتاباتهم على الأمم والشعوب التي على ضفتي البحر الأحمر باعتباره البحر التي تلتقي عليه حضارات العالم القديم والتي تقع مكة في قلب هذا العالم .

    ردحذف