الجمعة، 8 أبريل 2016

هل حقا نشأ الإسلام في مكة؟ (3)


الجزء الثاني: الدلائل تشير إلى الشمال
المكان الآخر
((مدينة مكة وقريش لم تكن معروفة خارج الجزيرة، مع أن المصادر أخبرت الكثير عن جزيرة العرب، وهذا يشير إلى أن نشوء الإسلام لم يكن في الحجاز، ولم يكن الحجاز المكان الذي إنطلقت منه موجات الفتوحات لنشر عقيدة العرب في العالم.)) – من مقال لنادر قريظ, بعنوان "إسلام بدون محمد - تحدي كاليش للعقل الإسلامي"

 (("تجارة مكة و ظهور الإسلام" هو كتاب لباتريشيا كرونة, باحثة في التاريخ الإسلامي، تحاول فيه المؤلفة الوصول إلى فكرة أن الإسلام لم ينشأ في مكة، وتوضح في الكتاب ان مكة كانت بعيدة تماما عن الطريق بين اليمن وسوريا وانه ليس هناك اي ذكر لمكة في مصادر غير إسلامية في هذه الفترة.

فحص شامل لكل الأدلة المتاحة قادت باتريشيا إلى ان مهنة محمد لم تكن في مكة والمدينة ولا جنوب شبه الجزيرة العربية اصلا لكن في شمال الجزيرة العربية.))  – من تقديم كتاب "التجارة المكية و صعود الإسلام" , ويكيبيديا

((و على الرغم من أن القرآن يذكر عرفات و الصفا و المروة و أسماء أمكنة أخرى ارتبطت بشعائر الحج فهو يبقي الباب مفتوحا أمام إمكانية أن تكون الرواية الإسلامية المتأخرة هي التي ربطت هذه الأسماء بمواقع داخل مكة و حولها)) -  من كتاب "مقدمة في التاريخ الآخر", سليمان بشير, ص104


ينقل المؤرخ توم هولاند في كتابه المذكور (ص241 و 466) من كتابات ديبلوماسي روماني عمل كسفير في عدة مناطق عربية, يتحدث عن حرم كبير محاط بالنخيل, يجتمع فيه الحجيج للإحتفال مرتين سنويا, في جو يسوده الأمان و السلام بشكل استثنائي – لكن الدلائل المذكورة في النص تؤكد أن الحرم لا يقع في مكة, و إنما في مكان ما جنوب فلسطين.

حين نلاحظ 1- بكّة, و علاقتها بمحيط القدس,   2-  الكعبة, و علاقتها بشخصيات و أحداث مرتبطة بفلسطين و الأردن في الأصل, 3- الإسماعيليون, و كون موطنهم الأصلي الأردن و سيناء, 4-  التراث القرآني, و ارتباطه عموما بالتراث التوراتي بالأساس, 5- الإسراء, و علاقته بموطن الهيكل اليهودي, 6-  الصلاة الإسلامية, و توجهها أولا نحو فلسطين, 7-  المساجد الأولى, و قبلاتها التي كانت تشير إلى شمال غرب شبه الجزيرة, فسنجد أن كلها شواهد - و لا أقول دلائل- تشير إلى ارتباط بداية الإسلام الأولى فعلا بمواضع قرب فلسطين و الأردن, و تؤكد أن بروز دور مكة لم يأت إلا لاحقا.

علامة أخرى مهمّة : آثار قوم لوط
((ولوط السائر مع ابرام كان له ايضا غنم وبقر وخيام-  ولم تحتملهما الارض ان يسكنا معا.اذ كانت املاكهما كثيرة.فلم يقدرا ان يسكنا معا-  فحدثت مخاصمة بين رعاة مواشي ابرام ورعاة مواشي لوط.وكان الكنعانيون والفرزيون حينئذ ساكنين في الارض-  فقال ابرام للوط لا تكن مخاصمة بيني وبينك وبين رعاتي ورعاتك.لاننا نحن اخوان-  اليست كل الارض امامك.اعتزل عني.ان ذهبت شمالا فانا يمينا وان يمينا فانا شمالا - فرفع لوط عينيه وراى كل دائرة الاردن ان جميعها سقي قبلما اخرب الرب سدوم وعمورة كجنة الرب كارض مصر.حينما تجيء الى صوغر- فاختار لوط لنفسه كل دائرة الاردن وارتحل لوط شرقا.فاعتزل الواحد عن الاخر-  ابرام سكن في ارض كنعان ولوط سكن في مدن الدائرة ونقل خيامه الى سدوم.)) - العهد القديم, سفر التكوين, 13: 5,12
((هي الأرض المعروفه بالملعونه,وليس فيها زرع ولاضرع,ولا حشيش ولا نبات,وهي بقعه سوداء,قد أفترشتها حجاره متقاربه في الكبر.ويروى انها الحجاره المسومه التي رمي بها قوم لوط,وعلى جميع تلك الحجاره كالطابع من وجهيها, وهي كقوالب الجبن المستديره هيئاتها وخلقها, فلا يرى ما يخالف شيئا من اشكالها))  -  ابن حوقل, كاتب وجغرافي ومؤرخ ورحالة وتاجر مسلم من القرن العاشر للميلاد (23)

((وعلى القرب من البحيره المنتنه ديار قوم لوط,وهي ديار تسمى الأرض المقلوبه, وليس فيها زرع ولا ضرع ولا حشيش,وهي بقعه سوداء قد فرش فيها حجاره كلها متقاربه في الكبر,ويروى أنها من الحجاره المسومه التي رمي بها قوم لوط)) -  ابو الفداء, مؤرخ و جغرافي سوري من القرن الثالث عشر للميلاد (23)





يتحدث القرآن عن قوم لوط, التي دمرها الله بسبب ممارسة أهلها "للفواحش", قائلا (وَإِنَّ لُوطًا لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ -  إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ - إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ - ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ - وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ - وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) – الصافات 133- 138, فيصف المخاطَبين بأنهم يمرون على آثارهم مصبحين و بالليل, مما يوحي بقرب المسافة.

و هناك آيات أخرى يُفهم منها التأكيد على ذلك القرب الجغرافي لمن يخاطبهم مع آثار قوم لوط, فيصف موضعها بأنه في طريقهم (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ -  فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ – إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ - وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ) الحجر 73 – 76

و يؤكد أن تلك الآثار قريبة من القوم (فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ -  مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) هود 82-83
فأين تقع آثار قوم لوط؟ أو بصيغة أدق: ما هي المواقع الجغرافية التي ربطتها الأساطير بقوم لوط؟

الجواب بشكل حصري هو على حدود فلسطين, عند البحر الميت, قرب نهر الأردن: هذه هي منطقة سدوم و عمورة التاريخية, بعيدا نحو ألف كيلومتر عن مكة.

غُلِبَتِ الرُّومُ
مما يذكرنا بآية أخرى, تصب في نفس التلميح (الم- غُلِبَتِ الرُّومُ - فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ - فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) الروم, 1- 4

"أدنى الأرض", حسب المعاجم و التفاسير, تعني أقرب الأرض- علما بأن الإنتصارات المتبادلة بين الفرس و الروم قد جرت في الشام و فلسطين أيضا, مما يعتبر قرينة أخرى قوية أن القرآن كان يخاطب أشخاصا يعيشون في تلك المنطقة, لا في مكة.

آثار أخرى: مَدْيَن و الحِجْر
بالإضافة إلى آثار قوم لوط عند البحر الميت, يلمح القرآن إلى آثار منازل و بيوت قوم آخرين, الأرجح أنها البيوت الصخرية القديمة, و يربطها جغرافيا بشكل ما بمن يخاطبهم, حيث يصفهم تارة بأنهم "يمشون في مساكنهم"(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى) - طه , 128 , (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ) – السجدة, 26




و تارة يشير لهم إلى تلك المساكن و كأنها ماثلة أمامهم (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) – القصص, 58
و رغم الإشارة الماضية بقلة الساكنين في تلك الديار, إلا أنه يأتي مرة و يخاطب القوم بصفتهم من أولئك الساكنين فيها!, (وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ) – إبراهيم, 45

و هذه الآية الأخيرة ملفتة بشكل خاص, إذ لا يُعرف عن أي بيوت قديمة في مكة تُنسب لقوم هالكين - فمن يقصد القرآن بكلامه؟

من تفسير الطبري للآية نقرأ (قال ابن زيد، فـي قوله: { وَسَكَنْتُـمْ فِـي مَساكنِ الَّذِينَ ظَلَـمُوا أنْفُسَهُمْ وَتَبَـيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ } قال: سكنوا فـي قراهم مدين والـحجر والقرى التـي عذّب الله أهلها، وتبـين لكم كيف فعل الله بهم، وضرب لهم الأمثال).

و هذا التفسير بالفعل يبدو هو التفسير الوحيد المتاح, أن القرآن يتحدث هنا عن آثار مدين (قوم شعيب) و الحِجْر (قوم صالح: أي الثموديين).

أما مدين فتقع في منطقة تبوك, شمال غرب الجزيرة العربية, قرب الأردن, ناحية الساحل الشرقي لخليج العقبة, و هي المنطقة التي تتفق التوراة و القرآن على ربطها بموسى, حيث مر بها بعد هروبه من مصر قبل نبوته.

 أما الحِجْر, فهي المنطقة المعروفة بإسم مدائن صالح-  بقعة تبعد نحو أربعمائة كيلومتر شمال يثرب, بالقرب من محافظة العُلا.

يربط القرآن المكانين- الحجر و مدين - بنبيين لم يرد ذكرهما بشكل مؤكد في التوراة, هما صالح و شعيب, و يربطهما أيضا – خاصة الأولى- بالبيوت الصخرية و المنازل التي كانوا ينحتونها في قلب الجبال , و يربطهما كذلك بمصيبة إهلاك مريعة حلت بهما على التوالي, فمحت سكانهما من الوجود.

أما تاريخيا, فمنطقة شمال الجزيرة بالكامل, من شمال السعودية حتى سيناء, كانت تحت حكم العرب الأنباط , منذ نحو القرن الثاني قبل الميلاد و حتى الثاني بعد الميلاد, و الذين امتد حكمهم جنوبا ليشمل البقعة المسماة بمدائن صالح, علما بأن الأنباط هم الذين اشتهروا ببناء تلك المنازل الصخرية في عدة أماكن , و التي ستنسبها الأساطير العربية لاحقا إلى قوم صالح و قوم شعيب, و الأقوام الذين أهلكهم الله بسبب عصيانهم و تجبّرهم, كما أهلك نوحا و لوطا التوراتيين.

هكذا نرى أن القرآن لم يذكر فقط أن خصوم محمد كانوا يمرون على تلك القرى (و هو ما يمكن قبوله في ظل مرور القوافل التجارية المعتاد), و لكنه أيضا يجعلهم قريبين في مساكنهم, أو ربما حتى ساكنين فيها! , كما جعلهم من قبل قريبين من ديار لوط, يمرّون عليهم ليلا و نهارا, و كما وصف مكان هزيمة الروم (الشام) بأنه "أدنى الأرض" أي أقربها منهم-  كل هذا يوحي بتمركز الدعوة القرآنية في تلك المنطقة بالذات, و ليس إلى الجنوب البعيد في مكة.

و نشير هنا إلى بعض الروايات الملفتة, الموجودة في المصادر الإسلامية, تذكر أن محمدا حذّر قومه بشدة من الدخول إلى تلك المنطقة (لا تدخُلوا مساكنَ الذين ظلموا أنفسَهم إلا أن تكونوا باكينَ ، أن يُصيبَكم مثلَ ما أصابَهم) (24)

و نلاحظ المفارقة الملفتة بين قول محمد لأصحابه "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم" من ناحية, و بين قول القرآن للكفار سابقا "و سكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم" من ناحية أخرى -  فمن نصدق؟!

قراءة مغايرة لسورة الفيل؟
((قال ابن زيد، في قوله: "تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سَجِّيلٍ" , وهي التي أنزل الله جلّ وعزّ على قوم لوط )) - من تفسير الطبري لسورة الفيل.
لو صح إذن ارتباط أحداث الدعوة القرآنية بتلك المنطقة شمال غرب الجزيرة العربية , فهل يُمكن فهم سورة الفيل الغامضة هذه بشكل مغاير, على أنها لا تتحدث عن أبرهة و مكة, و إنما تتحدث ببساطة عن إحدى أولئك القوم الهالكين, الذين أرسل الله عليهم حجارة من طين فقضت عليهم؟ 

في منطقة العلا, بالقرب من مدائن صالح, نجد مَعلما شديد الضخامة, يرتفع نحو خمسين مترا, عبارة عن صخرة على شكل فيل عملاق, حتى أنها  بالفعل تشتهر كمعلم سياحي بذلك الإسم: "صخرة الفيل".



فهل يُحتمل إذن أن السورة إنما تتحدث عن إحدى القوم الهالكين, كقوم لوط أو ثمود أو المدينيين, سمّاهم القرآن تبعا لإسم المعلم الموجود في المكان (و ربما لهذا استخدم صيغة المفرد : الفيل لا الأفيال), ثم لاحقا تكفل الرواة بربط أحداث الآيات بأسطورة أبرهة و مكة؟  يظل مجرد تخمين يصعب حسمه.

شاهد آخر: القرآن و المناخ
((يصعب معرفة أيهما الأكثر إرباكا: النقص التام في القرآن لأي إشارة تدل على تحطيم أصنام من قِبَل محمد, أم تصوير "المشركين" كمُلّاك لقطعان عظيمة من الثيران و البقر و الخراف.. مكة, بصفتها مكان شديد الجفاف و القحولة, سيتفق معظم المهندسين الزراعيين على أنها ليست موضعا مناسبا لتربية المواشي- كما أن التربة البركانية المُكوِّنة لأرضها غير مناسبة بالمرة لإنبات الحبوب و الأعناب و النباتات و أشجار الزيتون, و الحدائق الشهية و الفواكه و العلف-  رغم ذلك فالله, حسب ما يذكر النبي, قد زوّد المشركين بجميع تلك البركات.. لا شيء بالطبع يستحيل على قدرة العليّ القدير, لكنها ستكون معجزة حقا لو أن مكة قد حظيت بحدائق متسعة من الأعناب و الزيتون و الرمان .. لو وجدت هذه, في جزيرة العرب القرن السابع, فستكون محصورة في الواحات, و إما في أرض الأنباط (الأردن) و النقب, حيث كانت تلك الصحراء آنذاك, في زمن النبي, قد أخذت في التفتّح, و بدأت الزراعة تزدهر بشكل غير مسبوق, وسط كآبة الرمال المقفرة)) - (من كتاب "تحت ظل السيف", للمؤرخ توم هولاند, ص 326- 327
بالفعل نجد في القرآن آيات عديدة تخاطب خصوم محمد على أنهم مزارعين , و تذكر حدائقهم و حقولهم الخضراء, و ثمارهم و فاكهتهم, و رعيهم للأغنام,  مما لا يبدو منطبقا بالمرة على مكة الصحراوية- نذكر على سبيل الأمثلة:

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) - الأنعام 99

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) - الأنعام 141

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ -  يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) - النحل 10-11

(وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) - النحل 67

(وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ - فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) - المؤمنون 18-19

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ -  أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا - ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا -  فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا -  وَعِنَبًا وَقَضْبًا-  وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا -  وَحَدَائِقَ غُلْبًا -  وَفَاكِهَةً وَأَبًّا - مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) - عبس 24-32

إذن, ترى هل كان بمكة قطع متجاورات, و جنات معروشات و غير معروشات, من أعناب و نخيل يتخذون منه الخمر؟ هل كان ينزل فيها الماء, فلهم فيه شراب, و منه شجر فيه يسيمون (أي يرسلون أنعامهم للرعي)؟ هل كان فيها حدائق و نخيل, و زيتون و رمان, و فواكه كثيرة منها يأكلون؟ )و قد نضيف: هل كان لديهم خنازير يتم تربيتها و أكلها أصلا, حتى يتم تحريمها؟) هذا كله غير مُتوقّع - و لكن ألا ينطبق ذلك الوصف المناخي على الشام و ما حولها؟

و شاهد آخر: ديانة المشركين
((أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى - وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى - أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى؟)) سورة النجم, 19- 21

من اللافت أن جميع الملامح الدينية المنسوبة لـ"مشركي مكة" حسب ما تحكي لنا السيرة الرسمية, نجدها هي بذاتها في ما وصلنا من أديان شمال الجزيرة العربية, خاصة  في المناطق التي وقعت تحت حكم الأنباط, و ذلك بدءا من وجود النصب الحجرية و الكتل شبه المكعبة المقدسة, المتناثرة وسط مراكز دينية , مقترنة بطقوس تشبه طقوس الحج المعروفة, كتقديم القرابين و الطواف و غيرها, مرورا بتقديس الحجارة النيزكية, حيث يروى أن الإله النبطي "ذو الشرى" كان يُعبد على هيئة حجر أسود , وصولا إلى وجود نفس أسماء الآلهة المؤنثة القرآنية- اللاّت (إلهة الخصوبة و الزراعة و العالم السُفلي, ذات الأصول الرافدية), و العُزَّى (إلهة القوة, و التي يُحتمل أن لها أصلا مصريا, و تُقرن بإيزيس), و مَنَاة (إلهة القدر و المصير)- و التي نجد أسماءها جميعا منقوشة, مع بقايا من أصنامها - ضمن آلهة أخرى- في تلك المراكز و ما حولها, فهي آلهة نبطية في الأصل (25) (26) (27) (28), و هو ما لا تنكره الرواية الإسلامية, بل تبرر الأمر عن طريق شخص يُسمّى "عمرو ابن لُحَيّ", يُنسب له القيام بـ"استيراد" تلك الأصنام من شمال الجزيرة إلى مكة في الجنوب, قبل الإسلام (29), بالإضافة لهذا, نجد اسم الله نفسه مذكورا بكثرة في المنقوشات و الآثار النبطية (30)
    
 الإله الغريب : الرحمان
المسلم التقليدي يتعامل مع "الرحمن" على أنه مجرد اسم آخر, ضمن تسعة و تسعين اسما, لله الواحد - و لكن قليل من التأمل يرينا أن المسألة أعقد نوعا من ذلك.

صحيح أن القرآن غالبا ما يذكر الإسمين بشكل تبادلي و كأنهما واحد, لكن هناك بضعة آيات توحي بشيء مختلف : فبينما نجد آيات قرآنية عديدة تؤكد أن خصوم محمد كانوا يعرفون الله, بل و يؤمنون به على شركهم (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ), الزمر 38 , نجد آيات أخرى تقول بأنهم رفضوا "الرحمن",(وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ هُمْ كَافِرُونَ) الأنبياء 36, (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَٰنِ ۚ قُلْ هُوَ رَبِّي) الرعد 30, بل و يستنكرون الإسم ذاته (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَٰنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا) الفرقان 60 , مما يخبرنا بوجود ثمّة انفصال و تباين بين الإثنين.

من تفسير الطبري للآية من سورة الرعد, نقرأ بأن الخلاف بين محمد و قريش, حول الله و الرحمن ظهر في أثناء كتابة صيغة صلح الحديبية, و فيها تأكيد على أن اسم الرحمن كان غريبا على أسماعهم: (فلـما كتب الكاتب: «بسم الله الرحمن الرحيـم»، قالت قريش: أما الرحمن فلا نعرفه وكان أهل الـجاهلـية يكتبون: «بـاسمك اللهمّ»، فقال أصحابه: يا رسول الله دعنا نقاتلهم, قال: " لا ولكِنْ اكْتُبُوا كمَا يُرِيدُونَ".)

كما نجد روايات أخرى تنسب اسم "الرحمان" إلى مسيلمة في اليمامة (نجد, شرق وسط السعودية), و تخبرنا بأن خصوم محمد حين سمعوا البسملة المعروفة اتهموه بأنه يدعو إلها آخر, هو إله مسيلمة, مما منعه من الجهر بذلك الإسم مرة أخرى:  (كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَجْهَرُ بِبِسمِ الله الرحمنِ الرحيمِ ، وكان مُسيلمة يُدعى رحمانَ اليمامةِ ، فقال أهلُ مكةَ : إنّما يدعو إلَهَ اليمامةِ ، فأمرَ اللهُ ورسولهُ بإخفائها ، فما جهرَ بها حتى ماتَ) (31)

ما معنى ذلك؟ و هل الرحمن هو مجرد إسم آخر لله, أم هو إله آخر بالكُلّية؟

نلاحظ في النقش الذي أوردنا لأبرهة, في الجزء الأول من الموضوع, أنه يبدأ بذكر اسم "الرحمن"-  و هذا لا يقتصر على ذلك النقش وحده, بل إن آثار الجزيرة العربية بشكل عام تؤكد أن الرحمن\الرحمان كان الإله الرئيسي المعبود في اليمن و جنوب الجزيرة العربية, بشكل توحيدي لا وثني , فكان يسمى أحيانا "رب اليهود", و أحيانا "رب السماوات و الأرض", و لا يُذكر معه آلهة أخرى ,و ذلك ابتداءا من أواخر القرن الرابع للميلاد, أي قبل قرنين و نصف من ظهور الإسلام (32) (33) (34) , مع ملاحظة أننا لا نجد الإسم في نقوش شمال الجزيرة العربية.

هكذا يمكن فهم التنازع بين الإسمين "الرحمن" و "الله", على أنه ظهر كنتيجة لمحاولة النبي محمد تقديم الإله الواحد العربي الجنوبي, إلى سكان عرب الشمال الذين يؤمنون بالله, لكن يشوب إيمانهم الشرك - ذلك التنازع الذي يقوم القرآن بحلّه في النهاية , عن طريق دمج الإسمين معا, و إظهارهما كأنهما نفس الكيان : فالله و الرحمن ليسا إلا اسمين للإله الواحد (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ) الإسراء 110 , و هذا الدمج بين الآلهة هو تقليد ديني متبع بشكل متكرر منذ القدم (35)

هذا الإنفصال بين الإلهين, و محاولة ترويج محمد للرحمن, مع إنكار خصومه لذلك, يمكنه – بمزيد من الدراسة- أن يدلنا من ناحية على الأصل الذي جاء منه محمد, و المؤثرات التي صاغت دعوته, و يدلنا من ناحية أخرى على المسرح الذي نشطت فيه تلك الدعوة – و هو ما يهمنا هنا- و هو فيما يبدو مسرح عربي شمالي.
هوامش و مراجع
 (23) كتاب بلدانية فلسطين العربيه .جمع النصوص ألأب أ.س.مرمرجي الدومنكي .وفهرسها محمد خليل الباشا .عالم الكتب .

(24) من صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 3381.. و بروايات أخرى بأرقام 1338 – 4419, و كذلك في صحيح مسلم برقم 2980
(25) "PETRA: Lost City of Stone" (in (French)). Civilization.ca. Retrieved 2013-02-03.
(26)Healey, John F. (2001). "4". The Religion of the Nabataeans: A Conspectus. Religions in the Graeco-Roman World 136. Boston: Brill. pp. 107–119. ISBN 90-04-10754-1.
(27) Jane Taylor, Petra and the Lost Kingdom of the Nabataeans, I.B.Tauris Publishers, 2001, ISBN 1-86064-508-9 pg. 130
(28) Hommel, First Encyclopaedia of Islam, Vol. 1. p. 380
(29)(11/253) المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام
(30) Alfred Guillaume. Islam. Penguin 1990 ISBN 0-14-013555-3 pp.7
31) الراوي: سعيد بن جبير المحدث: ابن حجر العسقلاني - المصدر: الدراية - الصفحة أو الرقم: 1/136, و أيضا : المراسيل - الصفحة أو الرقم: 141
(32) C. J. Robin, "South Arabia, Religions In Pre-Islamic", in J. D. McAuliffe (Gen. Ed.), Encyclopaedia Of The Qur'ān, 2006, Volume Five Si – Z, Koninklijke Brill NV: Leiden (The Netherlands), pp. 84-85.
(33) J. Ryckmans, "South Arabia, Religion Of", in D. N. Freedman (Editor-in-Chief), The Anchor Bible Dictionary, 1992, Volume 6, Doubleday: New York, pp. 174-175; J. Ryckmans, "The Old South Arabian Religion", in W. Daum (Ed.), Yemen: 3000 Years Of Art And Civilization In Arabia Felix, 1987?, op. cit., p. 110; A. Sima, "Religion" in St. J. Simpson (Ed.), Queen Of Sheba: Treasures From Ancient Yemen, 2002, The British Museum Press: London, p. 165; A. F. L. Beeston, "The Religions Of Pre-Islamic Yemen" in J. Chelhod (Ed.), L'Arabie Du Sud Histoire Et Civilisation (Le Peuple Yemenite Et Ses Racines), 1984, Volume I, Islam D'Hier Et D'Aujourd'Hui: 21, Editions G. -P. Maisonneuve et Larose: Paris, pp. 267-268.
(34) J. C. Greenfield, "From ’LH RḤMN To AL-RAḤMĀN: The Source Of A Divine Epithet" in B. H. Hary, J. L. Hayes & F. Astren (Eds.), Judaism And Islam: Boundaries, Communication And Interaction - Essays In Honor Of William M. Brinner, 2000, Brill: Leiden
(35) من أشهر الأمثلة على دمج الآلهة هو ما تم من دمج الإله المصري الشمالي الشمسي القديم "رع", مع إله طيبة الجنوبي الصاعد "المختفي", "آمون", مما أنتج الإله الجديد "آمون رع" كحل وسط يرضي الجميع..

الجزء الأول
الجزء الثاني

الجزء الرابع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق